الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى} نَبِيِّنَا (مُوسَى) إِذْ تَابَعْنَا لَهُ الْحُجَجَ عَلَى فِرْعَوْنَ فَأَبَى أَنْ يَسْتَجِيبَ لِأَمْرِ رَبِّهِ، وَطَغَى وَتَمَادَى فِي طُغْيَانِهِ (أَنْ أَسْرِ) لَيْلًا (بِعِبَادِي) يَعْنِي بِعِبَادِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} يَقُولُ: فَاتَّخِذْ لَهُمْ فِي الْبَحْرِ طَرِيقًا يَابِسًا، وَالْيَبَسُ وَالْيَبْسُ: يَجْمَعُ أَيْبَاسُ، تَقُولُ: وَقَفُوا فِي أَيْبَاسٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْيَبْسُ الْمُخَفَّفُ يُجْمَعُ يَبُوسَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ (يَبَسًا) قَالَ: يَابِسًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} فَإِنَّهُ يَعْنِي: لَا تَخَافُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ أَنْ يُدْرِكُوكَ مِنْ وَرَائِكَ، وَلَا تَخْشَى غَرَقًا مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ وَوَحَلًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} يَقُولُ: (لَا تَخَافُ) مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ {دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} مِنَ الْبَحْرِ غَرَقًا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} يَقُولُ: لَا تَخَافُ أَنْ يُدْرِكَكَ فِرْعَوْنُ مِنْ بَعْدِكَ وَلَا تَخْشَى الْغَرَقَ أَمَامَكَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى: هَذَا فِرْعَوْنُ قَدْ أَدْرَكَنَا، وَهَذَا الْبَحْرُ قَدْ غَشِيَنَا، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ {لَا تَخَافُ دَرَكًا} أَصْحَابَ فِرْعَوْنَ {وَلَا تَخْشَى} مِنَ الْبَحْرِ وَحَلًا. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الرَّمْلِيُّ قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: ثَنَا هَشِيمٌ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فِي قَوْلِهِ {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} قَالَ: الْوَحَلُ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ {لَا تَخَافُ دَرَكًا} فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ غَيْرَ الْأَعْمَشِ وَحَمْزَةَ: {لَا تَخَافُ دَرَكًا} عَلَى الِاسْتِئْنَافِ بِلَا كَمَا قَالَ: {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} فَرَفَعَ، وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْجَوَابُ مَعَ "لَا". وَقَرَأَ ذَلِكَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ {لَا تَخَفْ دَرَكًا} فَجَزَمَا لَا تَخَافُ عَلَى الْجَزَاءِ، وَرَفَعَا (وَلَا تَخْشَى) عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} فَاسْتَأْنَفَ بِـ"ثُمَّ"، وَلَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ: (وَلَا تَخْشَى) الْجَزْمَ، وَفِيهِ الْيَاءُ، كَانَ جَائِزًا، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: هُزِّي إِلَيْكِ الْجِذْعَ يَجْنِيكِ الْجَنَى وَأَعْجَبُ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا (لَا تَخَافُ) عَلَى وَجْهِ الرَّفْعِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَفْصَحُ اللُّغَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى جَائِزَةٌ، وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: مَعْنَى قَوْلِهِ {لَا تَخَافُ دَرَكًا} اضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا لَا تَخَافُ فِيهِ دَرْكًا، قَالَ: وَحَذَفَ فِيهِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ أَكْرَمْتُ، وَأَنْتَ تُرِيدُ أَكْرَمْتُهُ، وَكَمَا تَقُولُ {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أَيْ لَا تُجْزَى فِيهِ، وَأَمَّا نَحْوِيُّو الْكُوفَةِ فَإِنَّهُمْ يَنْكَرُونَ حَذْفَ فِيهِ إِلَّا فِي الْمَوَاقِيتِ، لِأَنَّهُ يَصْلُحُ فِيهَا أَنْ يُقَالَ: قُمْتُ الْيَوْمَ وَفِي الْيَوْمِ، وَلَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَسَرَى مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنْ أَسْرِ بِهِمْ، فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ حِينَ قَطَعُوا الْبَحْرَ، فَغَشِيَ فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ فِي الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ، فَغَرِقُوا جَمِيعًا {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَجَاوَزَ فِرْعَوْنُ بِقَوْمِهِ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَأَخَذَ بِهِمْ عَلَى غَيْرِ اسْتِقَامَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَلَكَ بِهِمْ طَرِيقَ أَهْلِ النَّارِ، بِأَمْرِهِمْ بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ (وَمَا هَدَى) يَقُولُ: وَمَا سَلَكَ بِهِمُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ مُوسَى، وَالتَّصْدِيقِ بِهِ، فَأَطَاعُوهُ، فَلَمْ يَهْدِهِمْ بِأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَهْتَدُوا بِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَـزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا نَجَا مُوسَى بِقَوْمِهِ مِنَ الْبَحْرِ، وَغَشِيَ فِرْعَوْنَ قَوْمَهُ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ، قُلْنَا لِقَوْمِ مُوسَى {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فِرْعَوْنَ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَنَـزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفَ كَانَتْ مُوَاعِدَةُ اللَّهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى بِاخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِمَا، وَذَكَرْنَا الشَّوَاهِدَ عَلَى الصَّوَابِ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ {قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ} فَكَانَتْ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ يَقْرَءُونَهُ {قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ} بِالنُّونِ وَالْأَلِفِ وَسَائِرُ الْحُرُوفِ الْأُخْرَى مَعَهُ كَذَلِكَ، وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ (قَدْ أَنْجَيْتُكُمْ) بِالتَّاءِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحُرُوفِ الْأُخَرِ، إِلَى قَوْلِهِ {وَنَـزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} فَإِنَّهُمْ وَافَقُوا الْآخَرِينَ فِي ذَلِكَ وَقَرَءُوهُ بِالنُّونِ وَالْأَلِفِ. وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ بِاتِّفَاقِ الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ ذَلِكَ فَمُصِيبٌ. وَقَوْلُهُ {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُمْ: كُلُوا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ شَهِيَّاتِ رِزْقِنَا الَّذِي رَزَقْنَاكُمْ، وَحَلَالِهِ الَّذِي طَيَّبْنَاهُ لَكُمْ {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} يَقُولُ: وَلَا تَعْتَدُوا فِيهِ، وَلَا يَظْلِمُ فِيهِ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} يَقُولُ: وَلَا تَظْلِمُوا. وَقَوْلُهُ {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} يَقُولُ: فَيَنْـزِلُ عَلَيْكُمْ عُقُوبَتِي. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} يَقُولُ: فَيَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ غَضَبِي. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ} بِكَسْرِ الْحَاءِ {وَمَنْ يَحْلِلْ} بِكَسْرِ اللَّامِ، وَوَجَّهُوا مَعْنَاهُ إِلَى: فَيَجِبُ عَلَيْكُمْ غَضَبِي، وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ} بِضَمِّ الْحَاءِ، وَوَجَّهُوا تَأْوِيلَهُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْ قَتَادَةَ مِنْ أَنَّهُ فَيَقَعُ وَيَنْـزِلُ عَلَيْكُمْ غَضَبِي. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَقَدْ حَذَّرَ اللَّهُ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ مَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وُقُوعَ بَأْسِهِ بِهِمْ وَنُـزُولَهُ بِمَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ إِنْ هُمْ عَصَوْهُ، وَخَوَّفَهُمْ وُجُوبَهُ لَهُمْ، فَسَوَاءٌ قُرِئَ ذَلِكَ بِالْوُقُوعِ أَوْ بِالْوُجُوبِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ خُوِّفُوا الْمَعْنِيِّينَ كِلَيْهِمَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَنْ يُجِبْ عَلَيْهِ غَضَبِي، فَيَنْـزِلُ بِهِ، فَقَدْ هَوَى، يَقُولُ فَقَدْ تَرَدَّى فَشَقِيَ. كَمَا حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {فَقَدْ هَوَى} يَقُولُ: فَقَدْ شَقِيَ. وَقَوْلُهُ {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} يَقُولُ: وَإِنِّي لَذُو غَفَرٌ لِمَنْ تَابَ مِنْ شِرْكِهِ، فَرَجَعَ مِنْهُ إِلَى الْإِيمَانِ لِي (وَآمَنَ) يَقُولُ: وَأَخْلَصَ لِي الْأُلُوهَةَ، وَلَمْ يُشْرِكْ فِي عِبَادَتِهِ إِيَّايَ غَيْرِي. {وَعَمِلَ صَالِحًا} يَقُولُ: وَأَدَّى فَرَائِضِي الَّتِي افْتَرَضْتُهَا عَلَيْهِ، وَاجْتَنَبَ مَعَاصِيَّ {ثُمَّ اهْتَدَى} يَقُولُ: ثُمَّ لَزِمَ ذَلِكَ فَاسْتَقَامَ وَلَمْ يُضَيِّعْ شَيْئًا مِنْهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} مِنَ الشِّرْكِ (وَآمَنَ) يَقُولُ: وَحَدَّ اللَّهَ {وَعَمِلَ صَالِحًا} يَقُولُ: أَدَّى فَرَائِضِي. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} مِنْ ذَنْبِهِ (وَآمَنَ) بِهِ {وَعَمِلَ صَالِحًا} فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنِ الرَّبِيعِ {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} مِنَ الشِّرْكِ (وَآمَنَ) يَقُولُ: وَأَخْلَصَ لِلَّهِ، وَعَمِلَ فِي إِخْلَاصِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ {ثُمَّ اهْتَدَى} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: لَمْ يُشَكِّكْ فِي إِيمَانِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {ثُمَّ اهْتَدَى} يَقُولُ: لَمْ يَشْكُكُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: ثُمَّ لَزِمَ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {ثُمَّ اهْتَدَى} يَقُولُ: ثُمَّ لَزِمَ الْإِسْلَامَ حَتَّى يَمُوتَ عَلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: ثُمَّ اسْتَقَامَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ {ثُمَّ اهْتَدَى} قَالَ: أَخَذَ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَاهُ: أَصَابَ الْعَمَلَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} قَالَ: أَصَابَ الْعَمَلَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: عَرَفَ أَمْرَ مُثِيبِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ عَنْ عَنْبَسَةَ عَنِ الْكَلْبِيِّ {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} مِنَ الذَّنْبِ (وَآمَنَ) مِنَ الشِّرْكِ {وَعَمِلَ صَالِحًا} أَدَّى مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ (ثُمَّ اهْتَدَى) عَرَفَ مُثِيبَهُ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الْفَزَارِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ شَاكِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبَنَانِيَّ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} قَالَ: إِلَى وِلَايَةِ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنَّمَا اخْتَرْنَا الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَا فِي ذَلِكَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الِاهْتِدَاءَ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى هُدًى، وَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِقَامَةِ عَلَيْهِ إِلَّا وَقَدْ جَمَعَهُ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالتَّوْبَةُ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَثَبَتَ عَلَيْهِ فَلَا شَكَّ فِي اهْتِدَائِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَمَا أَعْجَلَكَ} وَأَيُّ شَيْءٍ أَعْجَلَكَ {عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} فَتَقَدَّمْتَهُمْ وَخَلَّفْتَهُمْ وَرَاءَكَ، وَلَمْ تَكُنْ مَعَهُمْ. {قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي} يَقُولُ: قَوْمِي عَلَى أَثَرِي يَلْحَقُونَ بِي {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} يَقُولُ وَعَجَلْتُ أَنَا فَسَبَقْتُهُمْ رَبِّ كَيْمَا تَرْضَى عَنِّي. وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِمُوسَى: مَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ، لِأَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، فِيمَا بَلَغَنَا حِينَ نَجَّاهُ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَقَطَعَ بِهِمُ الْبَحْرَ، وَعْدَهُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، فَتَعَجَّلَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ، وَأَقَامَ هَارُونُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يَسِيرُ بِهِمْ عَلَى أَثَرِ مُوسَى. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: وَعَدَ اللَّهُ مُوسَى حِينَ أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ وَنَجَّاهُ وَقَوَّمَهُ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَتَمَّهَا بِعَشْرٍ، فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، تَلْقَاهُ فِيهَا بِمَا شَاءَ، فَاسْتَخْلَفَ مُوسَى هَارُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَعَهُ السَّامِرِيُّ يَسِيرُ بِهِمْ عَلَى أَثَرِ مُوسَى لِيَلْحَقَهُمْ بِهِ، فَلَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى، قَالَ لَهُ {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}. كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} قَالَ: لِأُرْضِيَكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي}. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى: فَإِنَّا يَا مُوسَى قَدِ ابْتَلَيْنَا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَذَلِكَ كَانَ فِتْنَتُهُمْ مِنْ بَعْدِ مُوسَى. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ (مِنْ بَعْدِكَ) مِنْ بَعْدِ فِرَاقِكَ إِيَّاهُمْ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} وَكَانَ إِضْلَالُ السَّامِرِيِّ إِيَّاهُمْ دُعَاءَهُ إِيَّاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ. وَقَوْلُهُ {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ} يَقُولُ: فَانْصَرَفَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً {غَضْبَانَ أَسِفًا} مُتَغَيِّظًا عَلَى قَوْمِهِ، حَزِينًا لِمَا أَحْدَثُوهُ بَعْدَهُ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {غَضْبَانَ أَسِفًا} يَقُولُ: حَزِينًا، وَقَالَ فِي الزُّخْرُفِ {فَلَمَّا آسَفُونَا} يَقُولُ: أَغْضَبُونَا، وَالْأَسَفُ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْغَضَبُ، وَالْحُزْنُ. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ {غَضْبَانَ أَسِفًا} يَقُولُ: حَزِينًا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا}: أَيْ حَزِينًا عَلَى مَا صَنَعَ قَوْمُهُ مِنْ بَعْدِهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ {أَسِفًا} قَالَ: حَزِينًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، وَقَوْلُهُ {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} يَقُولُ: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ أَنَّهُ غَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى، وَيَعِدُكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، وَيُنَـزِّلُ عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، فَذَلِكَ وَعْدُ اللَّهِ الْحَسَنُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي قَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَلَمْ يَعِدْكُمُوهُ رَبُّكُمْ، وَقَوْلُهُ {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} يَقُولُ: أَفَطَالَّ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ بِي، وَبِجَمِيلِ نِعَمِ اللَّهِ عِنْدَكُمْ، وَأَيَادِيهِ لَدَيْكُمْ، أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ: يَقُولُ: أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَجِبَ عَلَيْكُمْ غَضِبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَتَسْتَحِقُّوهُ بِعِبَادَتِكُمُ الْعِجْلَ، وَكُفْرِكُمْ بِاللَّهِ، فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي. وَكَانَ إِخْلَافُهُمْ مَوْعِدَهُ عُكُوفَهُمْ عَلَى الْعَجَلِ، وَتَرْكَهُمُ السَّيْرَ عَلَى أَثَرِ مُوسَى لِلْمَوْعِدِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ وَعْدَهُمْ، وَقَوْلَهُمْ لِهَارُونَ إِذْ نَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَدَعَاهُمْ إِلَى السَّيْرِ مَعَهُ فِي أَثَرِ مُوسَى {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ، يَعْنُونَ بِمَوْعِدِهِ عَهْدَهُ الَّذِي كَانَ عَهَدَهُ إِلَيْهِمْ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى "ح" وَحَدَّثَنَا الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ (مَوْعِدِي) قَالَ: عَهْدِي، وَذَلِكَ الْعَهْدُ وَالْمَوْعِدُ هُوَ مَا بَيَّنَاهُ قَبِلُ. وَقَوْلُهُ (بِمَلْكِنَا) يُخْبِرُ جَلَّ ذِكْرُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْخَطَأِ، وَقَالُوا: إِنَّا لَمْ نُطِقْ حَمْلَ أَنْفُسِنَا عَلَى الصَّوَابِ، وَلَمْ نَمْلِكْ أَمْرَنَا حَتَّى وَقَعْنَا فِي الَّذِي وَقَعْنَا فِيهِ مِنَ الْفِتْنَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ (بِمَلْكِنَا) بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ (بِمُلْكِنَا (بِضَمِّ الْمِيمِ، وَقَرَأَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ (بِمَلْكِنَا) بِالْكَسْرِ، فَأَمَّا الْفَتْحُ وَالضَّمُّ فَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُمُا بِقُدْرَتِنَا وَطَاقَتِنَا غَيْرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَصْدَرٌ، وَالْآخِرَ اسْمٌ، وَأَمَّا الْكَسْرُ فَهُوَ بِمَعْنَى مَلْكِ الشَّيْءِ وَكَوْنِهِ لِلْمَالِكِ. وَاخْتَلَفَ أَيْضًا أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِأَمْرِنَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} يَقُولُ: بِأَمْرِنَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ (بِمَلْكِنَا) قَالَ: بِأَمْرِنَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: بِطَاقَتِنَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا}: أَيُّ بِطَاقَتِنَا. حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} يَقُولُ: بِطَاقَتِنَا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِهَوَانَا، وَلَكِنَّا لَمْ نَمْلِكْ أَنْفُسَنَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} قَالَ: يَقُولُ بِهَوَانَا، قَالَ: وَلَكِنَّهُ جَاءَتْ ثَلَاثَةٌ، قَالَ وَمَعَهُمْ حُلِيٌّ اسْتَعَارُوهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَثِيَابٌ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي ذَلِكَ مُتَقَارِبَاتُ الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ لِغَلَبَةِ هَوَاهُ عَلَى مَا أَمْرٍ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَقُولَ: فَعَلَ فُلَانٌ هَذَا الْأَمْرَ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ وَفِعْلَهُ، وَهُوَ لَا يَضْبُطُهَا وَفَعَلَهُ وَهُوَ لَا يُطِيقُ تَرْكَهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَسَوَاءٌ بِأَيِّ الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ قَرَأَ ذَلِكَ الْقَارِئُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَسَرَ الْمِيمَ مِنَ الْمَلِكِ، فَإِنَّمَا يُوَجِّهُ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ، وَنَحْنُ نَمْلِكُ الْوَفَاءَ بِهِ لِغَلَبَةِ أَنْفُسِنَا إِيَّانَا عَلَى خِلَافِهِ، وَجَعْلِهِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: هَذَا مِلْكُ فُلَانٍ لِمَا يَمْلِكُهُ مِنَ الْمَمْلُوكَاتِ، وَأَنَّ مَنْ فَتَحَهَا، فَإِنَّهُ يُوَجِّهُ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ يَجْعَلُهُ مَصْدَرًا مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَلَكَتُ الشَّيْءَ أَمْلِكُهُ مَلِكًا وَمَلِكَةً، كَمَا يُقَالُ: غَلَبْتُ فُلَانًا أَغْلَبُهُ غَلَبًا وَغَلَبَةً، وَأَنَّ مَنْ ضَمَّهَا فَإِنَّهُ وَجَّهَ مَعْنَاهُ إِلَى مَا أَخْلَفَنَا مَوْعِدَكَ بِسُلْطَانِنَا وَقَدَّرَتْنَا، أَيْ وَنَحْنُ نَقْدِرُ أَنْ نَمْتَنِعَ مِنْهُ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَهَرَ شَيْئًا فَقَدْ صَارَ لَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَهُ بِالضَّمِّ، فَقَالَ: أَيُّ مَلْكٍ كَانَ يَوْمَئِذٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنَّمَا كَانُوا بِمِصْرَ مُسْتَضْعَفِينَ، فَأَغْفَلَ مَعْنَى الْقَوْمِ وَذَهَبَ غَيْرَ مُرَادِهِمْ ذَهَابًا بَعِيدًا، وَقَارِئُو ذَلِكَ بِالضَّمِّ لَمْ يَقْصِدُوا الْمَعْنَى الَّذِي ظَنَّهُ هَذَا الْمُنْكِرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَصَدُوا إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِسُلْطَانٍ كَانَتْ لَنَا عَلَى أَنْفُسِنَا نَقْدِرُ أَنْ نَرُدَّهَا عَمَّا أَتَتْ، لِأَنَّ هَوَاهَا غَلَبَنَا عَلَى إِخْلَافِكَ الْمَوْعِدَ. وَقَوْلُهُ {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} يَقُولُ: وَلَكِنَّا حَمَلْنَا أَثْقَالًا وَأَحْمَالًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ، يَعْنُونَ مِنْ حُلِيِّ آلِ فِرْعَوْنَ، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا أَرَادَ مُوسَى أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ لَيْلًا مِنْ مِصْرَ بِأَمْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِذَلِكَ، أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَعِيرُوا مِنْ أَمْتِعَةِ آلِ فِرْعَوْنَ وَحُلِيِّهِمْ، وَقَالَ: إِنِ اللَّهَ مُغْنِمُكُمْ ذَلِكَ، فَفَعَلُوا، وَاسْتَعَارُوا مِنْ حُلِيِّ نِسَائِهِمْ وَأَمْتِعَتِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُمْ لِمُوسَى حِينَ قَالَ لَهُمْ {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ}. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} فَهُوَ مَا كَانَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ حُلِيِّ آلِ فِرْعَوْنَ، يَقُولُ: خَطَؤُنَا بِمَا أَصَبْنَا مِنْ حُلِيِّ عَدُوِّنَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ (أَوْزَارًا) قَالَ: أَثْقَالًا. وَقَوْلُهُ {مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} قَالَ: هِيَ الْحُلِيُّ الَّتِي اسْتَعَارُوا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَهِيَ الْأَثْقَالُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا} قَالَ: أَثْقَالًا {مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} قَالَ: حُلِيِّهِمْ. حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} يَقُولُ: مِنْ حُلِيِّ الْقِبْطِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} قَالَ: الْحُلِيُّ الَّذِي اسْتَعَارُوهُ وَالثِّيَابُ لَيْسَتْ مِنَ الذُّنُوبِ فِي شَيْءٍ، لَوْ كَانَتِ الذُّنُوبُ كَانَتْ حَمَلْنَاهَا نَحْمِلُهَا، فَلَيْسَتْ مِنَ الذُّنُوبِ فِي شَيْءٍ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْمَكِّيِّينَ (حُمِّلْنَا) بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ بِمَعْنَى أَنَّ مُوسَى يَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْمَكِّيِّينَ (حَمَلْنَا) بِتَخْفِيفِ الْحَاءِ وَالْمِيمِ وَفَتْحِهِمَا، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ حَمَلُوا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُكَلِّفَهُمْ حَمْلُهُ أَحَدٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقَوْلُ عِنْدِي فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْقَوْمَ حَمَلُوا، وَأَنَّ مُوسَى قَدْ أَمَرَهُمْ بِحَمْلِهِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ. وَقَوْلُهُ (فَقَذَفْنَاهَا) يَقُولُ: فَأَلْقَيْنَا تِلْكَ الْأَوْزَارَ مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فِي الْحُفْرَةِ {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} يَقُولُ: فَكَمَا قَذَفْنَا نَحْنُ تِلْكَ الْأَثْقَالَ، فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ تُرْبَةِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ (فَقَذَفْنَاهَا) قَالَ: فَأَلْقَيْنَاهَا {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ}: كَذَلِكَ صَنَعَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ (فَقَذَفْنَاهَا) قَالَ: فَأَلْقَيْنَاهَا {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} فَكَذَلِكَ صَنَعَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ (فَقَذَفْنَاهَا): أَيْ فَنَبَذْنَاهَا. وَقَوْلُهُ {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} يَقُولُ: فَأَخْرَجَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ مِمَّا قَذَفُوهُ وَمِمَّا أَلْقَاهُ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، وَيَعْنِي بِالْخُوَارِ الصَّوْتَ، وَهُوَ صَوْتُ الْبَقَرِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي كَيْفِيَّةِ إِخْرَاجِ السَّامِرِيِّ الْعِجْلَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَاغَهُ صِيَاغَةً، ثُمَّ أَلْقَى مِنْ تُرَابِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرَائِيلَ فِي فَمِهِ فَخَارَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} قَالَ: كَانَ اللَّهُ وَقَّتَ لِمُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ثُمَّ أَتَمَّهَا بِعَشْرٍ، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُونَ قَالَ عَدُوُّ اللَّهِ السَّامِرِيُّ: إِنَّمَا أَصَابَكُمُ الَّذِي أَصَابَكُمْ عُقُوبَةً بِالْحُلِيِّ الَّذِي كَانَ مَعَكُمْ، فَهَلُمُّوا وَكَانَتْ حُلِيًّا تَعَيَّرُوهَا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَسَارُوا وَهِيَ مَعَهُمْ، فَقَذَفُوهَا إِلَيْهِ، فَصَوَّرَهَا صُورَةَ بَقَرَةٍ، وَكَانَ قَدْ صَرَّ فِي عِمَامَتِهِ أَوْ فِي ثَوْبِهِ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرَائِيلَ، فَقَذَفَهَا مَعَ الْحُلِيِّ وَالصُّورَةِ {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} فَجَعْلَ يَخُورُ خُوَارَ الْبَقَرِ، فَقَالَ {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا اسْتَبْطَأَ مُوسَى قَوْمَهُ قَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ: إِنَّمَا احْتَبَسَ عَلَيْكُمْ لِأَجْلِ مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْحُلِيِّ، وَكَانُوا اسْتَعَارُوا حُلِيًّا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فَجَمَعُوهُ فَأَعْطَوْهُ السَّامِرِيَّ فَصَاغَ مِنْهُ عِجْلًا ثُمَّ أَخَذَ الْقَبْضَةَ الَّتِي قَبَضَ مِنْ أَثَرِ الْفَرَسِ، فَرَسِ الْمَلَكِ، فَنَبَذَهَا فِي جَوْفِهِ، فَإِذَا هُوَ عِجْلٌ جَسَدٌ لَهُ خُوَارٌ، قَالُوا: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى، وَلَكِنْ مُوسَى نَسِيَ رَبَّهُ عِنْدَكُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أَخَذَ السَّامِرِيُّ مِنْ تُرْبَةِ الْحَافِرِ، حَافِرِ فَرَسِ جِبْرَائِيلَ، فَانْطَلَقَ مُوسَى وَاسْتَخْلَفَ هَارُونُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَوَاعَدَهُمْ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، فَأَتَمَّهَا اللَّهُ بِعَشْرٍ، قَالَ لَهُمْ هَارُونُ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّ الْغَنِيمَةَ لَا تَحِلُّ لَكُمْ، وَإِنَّ حُلِيَّ الْقِبْطِ إِنَّمَا هُوَ غَنِيمَةٌ، فَاجْمَعُوهَا جَمِيعًا، فَاحْفُرُوا لَهَا حُفْرَةً فَادْفِنُوهَا، فَإِنْ جَاءَ مُوسَى فَأَحَلَّهَا أَخَذْتُمُوهَا، وَإِلَّا كَانَ شَيْئًا لَمْ تَأْكُلُوهُ، فَجَمَعُوا ذَلِكَ الْحُلِيَّ فِي تِلْكَ الْحُفْرَةِ، فَجَاءَ السَّامِرِيُّ بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ فَقَذَفَهَا فَأَخْرَجَ اللَّهُ مِنَ الْحُلِيِّ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، وَعَدَّتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَوْعِدَ مُوسَى، فَعَدُّوا اللَّيْلَةَ يَوْمًا، وَالْيَوْمَ يَوْمًا، فَلَمَّا كَانَ لِعِشْرِينَ خَرَجَ لَهُمُ الْعِجْلُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} فَعَكَفُوا عَلَيْهِ يَعْبُدُونَهُ، وَكَانَ يَخُورُ وَيَمْشِي {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} ذَلِكَ حِينَ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ: احْفُرُوا لِهَذَا الْحُلِيِّ حُفْرَةً وَاطْرَحُوهُ فِيهَا، فَطَرَحُوهُ، فَقَذَفَ السَّامِرِيُّ تُرْبَتَهُ، وَقَوْلُهُ: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} يَقُولُ: فَقَالَ قَوْمُ مُوسَى الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ: هَذَا مَعْبُودُكُمْ وَمَعْبُودُ مُوسَى، وَقَوْلُهُ (فَنَسِيَ) يَقُولُ: فَضَلَّ وَتَرَكَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ (فَنَسِيَ) مِنْ قَائِلِهِ وَمِنَ الَّذِي وَصَفَ بِهِ وَمَا مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا مِنَ اللَّهِ خَبَرٌ عَنِ السَّامِرِيِّ وَالسَّامِرِيُّ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِهِ، وَقَالُوا: مَعْنَاهُ: أَنَّهُ تَرَكَ الدِّينَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى وَهُوَ الْإِسْلَامُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: ثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ (فَنَسِيَ): أَيْ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، يَعْنِي: السَّامِرِيُّ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَنِ السَّامِرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّهُ وَصَّفَ مُوسَى بِأَنَّهُ ذَهَبَ يَطْلُبُ رَبَّهُ، فَأَضَلَّ مَوْضِعَهُ، وَهُوَ هَذَا الْعَجْلُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (فَقَذَفْنَاهَا) يَعْنِي زِينَةَ الْقَوْمِ حِينَ أَمَرَنَا السَّامِرِيُّ لَمَّا قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ جِبْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَلْقَى الْقَبْضَةَ عَلَى حُلِيِّهِمْ فَصَارَ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} الَّذِي انْطَلَقَ يَطْلُبُهُ (فَنَسِيَ) يَعْنِي: نَسِيَ مُوسَى، ضَلَّ عَنْهُ فَلَمْ يَهْتَدِ لَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ (فَنَسِيَ) يَقُولُ: طَلَبَ هَذَا مُوسَى فَخَالَفَهُ الطَّرِيقُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ (فَنَسِيَ) يَقُولُ: قَالَ السَّامِرِيُّ: مُوسَى نَسِيَ رَبَّهُ عِنْدَكُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ (فَنَسِيَ) مُوسَى، قَالَ: هُمْ يَقُولُونَهُ: أَخْطَأَ الرَّبُّ الْعِجْلَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ (فَنَسْيَ) قَالَ: نَسِيَ مُوسَى، أَخْطَأَ، الرَّبُّ الْعِجْلُ، قَوْمُ مُوسَى يَقُولُونَهُ. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ (فَنَسِيَ) يَقُولُ: تَرَكَ مُوسَى إِلَهَهُ هَاهُنَا وَذَهَبَ يَطْلُبُهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} قَالَ: يَقُولُ: فَنَسِيَ حَيْثُ وَعَدَهُ رَبُّهُ هَاهُنَا، وَلَكِنَّهُ نَسِيَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} يَقُولُ: نَسِيَ مُوسَى رَبَّهُ فَأَخْطَأَهُ، وَهَذَا الْعِجْلُ إِلَهُ مُوسَى. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ هَؤُلَاءِ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ عَنِ السَّامِرِيِّ أَنَّهُ وَصَفَ مُوسَى بِأَنَّهُ نَسِيَ رَبَّهُ، وَأَنَّهُ رَبُّهُ الَّذِي ذَهَبَ يُرِيدُهُ هُوَ الْعِجْلُ الَّذِي أَخْرَجَهُ السَّامِرِيُّ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ عُقَيْبَ ذِكْرِ مُوسَى، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مِنَ السَّامِرِيِّ عَنْهُ بِذَلِكَ أَشْبَهُ مِنْ غَيْرِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُوَبِّخًا عَبَدَةَ الْعِجْلِ، وَالْقَائِلِينَ لَهُ {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} وَعَابَهُمْ بِذَلِكَ، وَسَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ بِمَا فَعَلُوا وَنَالُوا مِنْهُ: أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّ الْعِجْلَ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ إِلَهُهُمْ وَإِلَهُ مُوسَى لَا يُكَلِّمُهُمْ، وَإِنْ كَلَّمُوهُ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ جَوَابًا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ضُرٍّ وَلَا نَفْعٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَا كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ إِلَهًا؟ كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ. قَالَ: ثَنَا عِيسَى "ح" وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} الْعِجْلُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} قَالَ: الْعِجْلُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ اللَّهُ {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ} ذَلِكَ الْعِجْلُ الَّذِي اتَّخَذُوهُ {قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}. وَقَوْلُهُ {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ} يَقُولُ: لَقَدْ قَالَ لِعَبَدَةِ الْعِجْلِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَارُونُ مِنْ قَبْلِ رُجُوعِ مُوسَى إِلَيْهِمْ، وَقِيلُهُ لَهُمْ مَا قَالَ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ {إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} يَقُولُ: إِنَّمَا اخْتَبَرَ اللَّهُ إِيمَانَكُمْ وَمُحَافَظَتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ بِهَذَا الْعَجَلِ الَّذِي أَحْدَثَ فِيهِ الْخُوَارَ، لِيَعْلَمَ بِهِ الصَّحِيحَ الْإِيمَانِ مِنْكُمْ مِنَ الْمَرِيضِ الْقَلْبِ الشَّاكِّ فِي دِينِهِ. كَمَا حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ: {إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} يَقُولُ: إِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ بِهِ، يَقُولُ: بِالْعَجَلِ. وَقَوْلُهُ {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} يَقُولُ: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنَ الَّذِي يَعُمُّ جَمِيعَ الْخَلْقِ نِعَمُهُ، فَاتَّبَعُونِي عَلَى مَا آمُرُكُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَتَرْكِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَأَطِيعُوا أَمْرِي فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ، وَقَوْلُهُ {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} يَقُولُ: قَالَ عَبَدَةُ الْعِجْلِ مِنْ قَوْمِ مُوسَى: لَنْ نَـزَالَ عَلَى الْعَجَلِ مُقِيمِينَ نَعْبُدُهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ خِطَابِ قَوْمِهِ وَمُرَاجَعَتِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْ خَطَأِ فِعْلِهِمْ: يَا هَارُونُ أَيُّ شَيْءٍ مَنْعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا عَنْ دِينِهِمْ، فَكَفَرُوا بِاللَّهِ وَعَبَدُوا الْعِجْلَ أَلَّا تَتْبَعَنِي. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي عَذَلَ مُوسَى عَلَيْهِ أَخَاهُ مِنْ تَرْكِهِ اتِّبَاعَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَذَلَهُ عَلَى تَرْكِهِ السَّيْرَ بِمَنْ أَطَاعَهُ فِي أَثَرِهِ عَلَى مَا كَانَ عَهِدَ إِلَيْهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَالَ الْقَوْمُ {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} أَقَامَ هَارُونُ فِيمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَمْ يُفْتَتَنْ، وَأَقَامَ مَنْ يَعْبُدُ الْعِجْلَ عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَتَخَوُّفَ هَارُونُ إِنَّ سَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولَ لَهُ مُوسَى {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} وَكَانَ لَهُ هَائِبًا مُطِيعًا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ} قَالَ: تَدَعُهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَذَلَهُ عَلَى تَرْكِهِ أَنْ يُصْلِحَ مَا كَانَ مِنْ فَسَادِ الْقَوْمِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلَهُ {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ} قَالَ: أَمَرَ مُوسَى هَارُونَ أَنْ يُصْلِحَ، وَلَا يَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ {أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ، تُرِكَ ذِكْرُهُ اسْتِغْنَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَهُوَ: ثُمَّ أَخَذَ مُوسَى بِلِحْيَةِ أَخِيهِ هَارُونَ وَرَأْسِهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ هَارُونُ {يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي}. وَقَوْلُهُ {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي صِفَةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمُ الَّذِي خَشِيَهُ هَارُونُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ هَارُونُ خَافَ أَنْ يَسِيرَ بِمَنْ أَطَاعَهُ، وَأَقَامَ عَلَى دِينِهِ فِي أَثَرِ مُوسَى، وَيَخْلُفَ عَبَدَةَ الْعِجْلِ، وَقَدْ (قَالُوا) لَهُ {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} فَيَقُولُ لَهُ مُوسَى {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} بِسَيْرِكَ بِطَائِفَةٍ، وَتَرْكِكَ مِنْهُمْ طَائِفَةً وَرَاءَكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} قَالَ: خَشِيتُ أَنْ يَتْبَعَنِي بَعْضُهُمْ وَيَتَخَلَّفَ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: خَشِيتُ أَنْ نَقْتَتِلَ فَيَقْتُلُ بَعْضُنَا بَعْضًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} قَالَ: كُنَّا نَكُونُ فِرْقَتَيْنِ فَيَقْتُلُ بَعْضُنَا بَعْضًا حَتَّى نَتَفَانَى. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّ مُوسَى عَذَلَ أَخَاهُ هَارُونَ عَلَى تَرْكِهِ اتِّبَاعَ أَمْرِهِ بِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَقَالَ لَهُ هَارُونُ: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ فَتَرَكْتَ بَعْضَهُمْ وَرَاءَكَ وَجِئْتَ بِبَعْضِهِمْ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِ هَارُونَ لِلْقَوْمِ {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} وَفِي جَوَابِ الْقَوْمِ لَهُ وَقِيلِهِمْ {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى}. وَقَوْلُهُ {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} يَقُولُ: وَلَمْ تَنْظُرْ قَوْلِي وَتَحْفَظُهُ، مِنْ مُرَاقَبَةِ الرَّجُلِ الشَّيْءَ، وَهِيَ مُنَاظَرَتُهُ بِحِفْظِهِ. كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} قَالَ: لَمْ تَحْفَظْ قَوْلِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}. يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} قَالَ مُوسَى لِلسَّامِرِيَ: فَمَا شَأْنُكَ يَا سَامِرِيُّ وَمَا الَّذِي دَعَاكَ إِلَى مَا فَعَلْتَهُ. كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} قَالَ: مَا أَمْرُكَ؟ مَا شَأْنُكَ؟ مَا هَذَا الَّذِي أَدْخَلَكَ فِيمَا دَخَلْتَ فِيهِ. حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} قَالَ: مَا لَكَ يَا سَامِرِيُّ؟ وَقَوْلُهُ {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} يَقُولُ: قَالَ السَّامِرِيُّ: عَلِمْتُ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ، وَهُوَ فَعَلْتُ مِنَ الْبَصِيرَةِ: أَيْ صِرْتُ بِمَا عَمِلْتُ بَصِيرًا عَالِمًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: لَمَّا قَتَلَ فِرْعَوْنُ الْوِلْدَانَ قَالَتْ أُمُّ السَّامِرِيِّ: لَوْ نَحَّيْتُهُ عَنِّي حَتَّى لَا أَرَاهُ، وَلَا أَدْرِيَ قَتَلَهُ، فَجَعَلَتْهُ فِي غَارٍ، فَأَتَى جِبْرَائِيلُ فَجَعَلَ كَفَّ نَفْسِهِ فِي فِيهِ، فَجَعَلَ يُرْضِعُهُ الْعَسَلَ وَاللَّبَنَ، فَلَمْ يَزَلْ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ حَتَّى عَرَفَهُ، فَمِنْ ثَمَّ مَعْرِفَتُهُ إِيَّاهُ حِينَ قَالَ: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ}. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ بِمَعْنَى: أَبْصَرْتُ مَا لَمْ يُبْصِرُوهُ، وَقَالُوا: يُقَالُ: بَصَرْتَ بِالشَّيْءِ وَأَبْصَرْتَهُ، كَمَا يُقَالُ: أَسْرَعْتُ وَسَرَعْتُ مَا شِئْتُ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: هُوَ بِمَعْنَى أَبْصَرْتُ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} يَعْنِي فَرَسَ جِبْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَوْلُهُ {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} يَقُولُ: قَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرَائِيلَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: ثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَذَفَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنْ زِينَةِ آلِ فِرْعَوْنَ فِي النَّارِ، وَتَكَسَّرَتْ، وَرَأَى السَّامِرِيُّ أَثَرَ فَرَسِ جِبْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَخَذَ تُرَابًا مِنْ أَثَرِ حَافِرِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى النَّارِ فَقَذَفَهُ فِيهَا، وَقَالَ: كُنْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، فَكَانَ لِلْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَبْضَ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ جِبْرَائِيلَ، فَأَلْقَى الْقَبْضَةَ عَلَى حُلِيِّهِمْ فَصَارَ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، فَقَالَ: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} قَالَ: مِنْ تَحْتِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرَائِيلَ، نَبَذَهُ السَّامِرِيُّ عَلَى حِلْيَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَانْسَبَكَ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، حَفِيفُ الرِّيحِ فِيهِ فَهُوَ خُوَارُهُ، وَالْعِجْلُ: وَلَدُ الْبَقَرَةِ. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ هَذَيْنَ الْحَرْفَيْنِ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} بِالْيَاءِ، بِمَعْنَى: قَالَ السَّامِرِيُّ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بِهِ) بِالتَّاءِ عَلَى وَجْهِ الْمُخَاطَبَةِ لِمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، بِمَعْنَى: قَالَ السَّامِرِيُّ لِمُوسَى: بَصُرْتُ بِمَا لَمْ تُبْصِرْ بِهِ أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ. وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءٌ مِنَ الْقُرَّاءِ مَعَ صِحَّةِ مَعْنَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ السَّامِرِيُّ رَأَى جِبْرَائِيلَ، فَكَانَ عِنْدَهُ مَا كَانَ بِأَنْ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِذَلِكَ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ أَنَّ تُرَابَ حَافِرِ فَرَسِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ يَصْلُحُ لَمَّا حَدَّثَ عَنْهُ حِينَ نَبْذَهُ فِي جَوْفِ الْعِجْلِ، وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَ مُوسَى، وَلَا عِنْدَ أَصْحَابِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلِذَلِكَ قَالَ لِمُوسَى {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ تَبْصُرُوا بِهِ} أَيْ عَلِمْتُ بِمَا لَمْ تَعْلَمُوا بِهِ. وَأَمَّا إِذَا قُرِئَ {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} بِالْيَاءِ، فَلَا مُؤْنَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَعْلَمُوا مَا الَّذِي يَصْلُحُ لَهُ ذَلِكَ التُّرَابُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} فَإِنَّ قُرَّاءَ الْأَمْصَارِ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِالضَّادِ، بِمَعْنَى: فَأَخَذْتُ بِكَفِّي تُرَابًا مِنْ تُرَابِ أَثَرِ فَرَسِ الرَّسُولِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ مَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: ثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا هَشِيمٌ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَوْفٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَهَا {فَقَبَصْتُ قَبْصَةً} بِالصَّادِّ. وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: ثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ عَبَّادِ عَنْ قَتَادَةَ مَثَلَ ذَلِكَ بِالصَّادِّ بِمَعْنَى: أَخَذْتُ بِأَصَابِعِي مِنْ تُرَابِ أَثَرِ فَرَسِ الرَّسُولِ، وَالْقَبْضَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْأَخْذُ بِالْكَفِّ كُلِّهَا، وَالْقَبْصَةُ: الْأَخْذُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ. وَقَوْلُهُ (فَنَبَذْتُهَا) يَقُولُ: فَأَلْقَيْتُهَا {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} يَقُولُ: وَكَمَا فَعَلْتُ مِنْ إِلْقَائِي الْقَبْضَةَ الَّتِي قَبَضْتُ مِنْ أَثَرِ الْفَرَسِ عَلَى الْحِلْيَةِ الَّتِي أَوْقَدَ عَلَيْهَا حَتَّى انْسَبَكَتْ فَصَارَتْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، {سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} يَقُولُ: زَيَّنَتْ لِي نَفْسِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ. كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} قَالَ: كَذَلِكَ حَدَّثَتْنِي نَفْسِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ مُوسَى لِلسَّامِرِيِّ: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي أَيَّامِ حَيَاتِكَ أَنْ تَقُولَ: لَا مِسَاسَ: أَيْ لَا أَمَسُّ، وَلَا أُمَسُّ.. وَذُكِرَ أَنَّ مُوسَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ لَا يُؤَاكِلُوهُ، وَلَا يُخَالِطُوهُ، وَلَا يُبَايِعُوهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ: إِنْ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ، فَبَقِيَ ذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ فِي قَبِيلَتِهِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ وَاللَّهِ السَّامِرِيُّ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهَا سَامِرَةَ، وَلَكِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ نَافَقَ بَعْدَ مَا قَطَعَ الْبَحْرَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْلُهُ {فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ} فَبَقَايَاهُمُ الْيَوْمَ يَقُولُونَ لَا مِسَاسَ. وَقَوْلُهُ {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَتِهِ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ (لَنْ تُخْلَفَهُ) بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ بِمَعْنَى: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لِعَذَابِكَ وَعُقُوبَتِكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ مِنْ إِضْلَالِكَ قَوْمِي حَتَّى عَبَدُوا الْعِجْلَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لَنْ يُخْلِفَكَهُ اللَّهُ، وَلَكِنْ يُذِيقُكَهُ، وَقَرَأَ ذَلِكَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو نَهْيِكٍ (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلِفَهُ) بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ، بِمَعْنَى: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلِفَهُ أَنْتَ يَا سَامِرِيُّ وَتَأَوَّلُوهُ بِمَعْنَى: لَنْ تَغِيبَ عَنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَهْيِكٍ يَقْرَأُ {لَنْ تُخْلِفَهُ أَنْتَ} يَقُولُ: لَنْ تَغِيبَ عَنْهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} يَقُولُ: لَنْ تَغِيبَ عَنْهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ مُوفٍ وَعْدَهُ لِخَلْقِهِ بِحَشْرِهِمْ لِمَوْقِفِ الْحِسَابِ، وَأَنَّ الْخَلْقَ مُوَافُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَلَا اللَّهُ مُخْلِفُهُمْ ذَلِكَ، وَلَا هُمْ مُخْلِفُوهُ بِالتَّخَلُّفِ عَنْهُ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} يَقُولُ: وَانْظُرْ إِلَى مَعْبُودِكَ الَّذِي ظَلَّتْ عَلَيْهِ مُقِيمًا تَعْبُدُهُ. كَمَا حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} الَّذِي أَقَمْتَ عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَقَالَ لَهُ مُوسَى {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} يَقُولُ: الَّذِي أَقَمْتَ عَلَيْهِ. وَلِلْعَرَبِ فِي ظَلَّتْ: لُغَتَانِ: الْفَتْحُ فِي الظَّاءِ، وَبِهَا قَرَأَ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، وَالْكَسْرُ فِيهَا، وَكَأَنَّ الَّذِينَ كَسَرُوا نَقَلُوا حَرَكَةَ اللَّامِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ مَنْ ظَلَلْتُ إِلَيْهَا، وَمَنْ فَتَحَهَا أَقَرَّ حَرَكَتَهَا الَّتِي كَانَتْ لَهَا قَبْلَ أَنْ يُحْذَفَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ فِي الْحُرُوفِ الَّتِي فِيهَا التَّضْعِيفُ ذَاكَ، فَيَقُولُونَ فِي مَسِسْتَ مَسَّتْ وَمِسَّتْ وَفِي هَمَمْتُ بِذَلِكَ: هَمَّتْ بِهِ، وَهَلْ أَحَسَّتْ فُلَانًا وَأَحْسَسْتَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: خَـلَا أَنَّ الْعِتَـاقَ مِـنَ الْمَطَايـَا *** أحَسْـنَ بِـهِ فَهُـنَّ إلَيْـهِ شُـوسُ وَقَوْلُهُ (لَنُحَرِّقَنَّهُ) اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ (لَنُحَرِّقَنَّهُ) بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، بِمَعْنَى لَنُحْرِقَنَّهُ بِالنَّارِ قِطْعَةً قِطْعَةً، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ (لَنُحْرِقَنَّهُ) بِضَمِّ النُّونِ، وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ، بِمَعْنَى: لَنُحَرِّقَنَّهُ بِالنَّارِ إِحْرَاقَةً وَاحِدَةً، وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْقَارِئُ: (لَنَحْرُقَنَّهُ) بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الرَّاءِ بِمَعْنَى: لَنَبْرُدُنَّهُ بِالْمَبَارِدِ مِنْ حَرَقْتُهُ أَحْرُقُهُ وَأُحَرِّقُهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: بِـذِي فِـرْقَيْنِ يَـوْمَ بَنُـو حُـبَيْبٍ *** نُيُـوبَهُمُ عَلَيْنـا يَحْرُقُونـا وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا مِنَ الْقِرَاءَةِ (لَنُحَرِّقَنَّهُ) بِضَمِّ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، مِنَ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ. كَمَا حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: (لَنُحَرِّقَنَّهُ) يَقُولُ: بِالنَّارِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (لَنُحَرِّقَنَّهُ) فَحَرَّقَهُ ثُمَّ ذَرَاهُ فِي الْيَمِّ، وَإِنَّمَا اخْتَرْتُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا. وَأَمَّا أَبُو جَعْفَرٍ فَإِنِّي أَحْسَبُهُ ذَهَبَ إِلَى مَا حَدَّثَنَا بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} ثُمَّ أَخَذَهُ فَذَبَحَهُ، ثُمَّ حَرَقَهُ بِالْمِبْرَدِ، ثُمَّ ذَرَاهُ فِي الْيَمِّ، فَلَمْ يُبْقَ بَحْرٌ يَوْمَئِذٍ إِلَّا وَقْعَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} قَالَ: وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ لَنَذْبَحَنَّهُ ثُمَّ لَنُحَرِقَنَّهُ، ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنَذْبَحَنَّهُ ثُمَّ لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا). وَقَوْلُهُ {ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} يَقُولُ: ثُمَّ لَنُذَرِّيَنَّهُ فِي الْبَحْرِ تَذْرِيَةً، يُقَالُ مِنْهُ: نَسَفَ فُلَانٌ الطَّعَامَ بِالْمَنْسَفِ: إِذَا ذَرَاهُ فَطَيَّرَ عَنْهُ قُشُورَهُ وَتُرَابَهُ بِالْيَدِ أَوِ الرِّيحِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} يَقُولُ: لَنُذَرِّيَنَّهُ فِي الْبَحْرِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ذُرَاهُ فِي الْيَمِّ، وَالْيَمُّ: الْبَحْرُ. حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: ثَنَا عَمْرٌو قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: ذُرَاهُ فِي الْيَمِّ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْيَمِّ، قَالَ: فِي الْبَحْرِ. وَقَوْلُهُ {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} يَقُولُ: مَا لَكَمَ أَيُّهَا الْقَوْمُ مَعْبُودٌ إِلَّا الَّذِي لَهُ عِبَادَةُ جَمِيعِ الْخَلْقِ لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ لِغَيْرِهِ، وَلَا تَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِلَّا لَهُ {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} يَقُولُ: أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا فَعِلْمُهُ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَضِيقُ عَلَيْهِ عِلْمُ جَمِيعِ ذَلِكَ، يُقَالُ مِنْهُ: فُلَانٌ يَسَعُ لِهَذَا الْأَمْرِ: إِذَا أَطَاقَهُ وَقَوِيَ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْعَ لَهُ: إِذَا عَجَزَ عَنْهُ فَلَمْ يُطِقْهُ وَلَمْ يَقْوَ عَلَيْهِ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} يَقُولُ: مَلَأَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ نَبَأَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَأَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ مُوسَى {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} يَقُولُ: كَذَلِكَ نُخْبِرُكَ بِأَنْبَاءِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي قَدْ سَبَقَتْ مِنْ قَبْلِكَ، فَلَمْ تُشَاهِدْهَا وَلَمْ تُعَايِنْهَا، وَقَوْلُهُ {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقَدْ آتَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عِنْدِنَا ذِكْرًا يَتَذَكَّرُ بِهِ وَيَتَّعِظُ بِهِ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ، وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْـزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَهُ ذِكْرَى لِلْعَالِمِينَ، وَقَوْلُهُ {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَنْ وَلَّى عَنْهُ فَأَدْبَرَ فَلَمْ يُصَدِّقْ بِهِ وَلَمْ يُقِرَّ {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} يَقُولُ: فَإِنَّهُ يَأْتِي رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ حِمْلًا ثَقِيلًا وَذَلِكَ الْإِثْمُ الْعَظِيمُ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ {يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} قَالَ: إِثْمًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: خَالِدِينَ فِي وِزْرِهِمْ، فَأَخْرَجُ الْخَبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ ذِكْرِهِ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِي أَوْزَارِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِي النَّارِ بِأَوْزَارِهِمْ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا الْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ اكْتُفِيَ بِمَا ذُكِرَ عَمَّا لَمْ يُذْكَرْ. وَقَوْلُهُ {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَسَاءَ ذَلِكَ الْحَمْلُ وَالثِّقْلُ مِنَ الْإِثْمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا وَحُقَّ لَهُمْ أَنْ يَسُوءَهُمْ ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْرَدَهُمْ مَهْلَكَةً لَا مَنْجَى مِنْهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. * ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} يَقُولُ: بِئْسَمَا حَمَلُوا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} يَعْنِي بِذَلِكَ ذُنُوبَهُمْ. وَقَوْلُهُ {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَقَوْلُهُ {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} رَدًّا عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى النَّفْخِ فِي الصُّوَرِ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَعْنَى الصُّوَرِ، وَالصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدِي بِشَوَاهِدِهِ الْمُغْنِيَةِ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَبْلُ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، بِمَعْنَى يَوْمَ يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ فَيُنْفَخُ فِي الصُّورِ. وَكَانَ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ يَقْرَأُ ذَلِكَ (يَوْمَ نَنْفُخُ فِي الصُّوَرِ) بِالنُّونِ بِمَعْنَى: يَوْمَ نَنْفُخُ نَحْنُ فِي الصُّوَرِ، كَأَنَّ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى قِرَاءَةِ ذَلِكَ كَذَلِكَ طَلَبُهُ التَّوْفِيقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ} إِذْ كَانَ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْقُرَّاءِ فِي نَحْشُرُ أَنَّهَا بِالنُّونِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي أَخْتَارُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقِرَاءَةِ يَوْمَ يُنْفَخُ بِالْيَاءِ عَلَى وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ وَإِنْ كَانَ لِلَّذِي قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَجْهٌ غَيْرُ فَاسِدٍ. وَقَوْلُهُ {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَنَسُوقُ أَهْلَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ يَوْمَئِذٍ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ زُرْقًا، فَقِيلَ: عَنَى بِالزُّرْقِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: مَا يَظْهَرُ فِي أَعْيُنِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ الَّذِي يَكُونُ بِهِمْ عِنْدَ الْحَشْرِ لِرَأْيِ الْعَيْنِ مِنَ الزُّرْقِ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عُمْيًا، كَالَّذِي قَالَ اللَّهُ {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا}. وَقَوْلُهُ {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَتَهَامَسُونَ بَيْنَهُمْ، وَيُسِرُّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ: إِنْ لَبِثْتُمْ فِي الدُّنْيَا، يَعْنِي أَنَّهُمْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا لَبِثْتُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَّا عَشْرًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} يَقُولُ: يَتَسَارُّونَ بَيْنَهُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ}: أَيٌّ يَتَسَارُّونَ بَيْنَهُمْ {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُمْ عِنْدَ إِسْرَارِهِمْ وَتَخَافُتِهِمْ بَيْنَهُمْ بِقِيلِهِمْ {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} بِمَا يَقُولُونَ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِمَّا يَتَسَارَرُونَهُ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ حِينَ يَقُولُ أَوْفَاهُمْ عَقْلًا وَأَعْلَمُهُمْ فِيهِمْ: إِنْ لَبِثْتُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا يَعْقُوبُ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أَوْفَاهُمْ عَقْلًا وَإِنَّمَا عَنَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالْخَبَرِ عَنْ قَيْلِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ يَوْمَئِذٍ إِعْلَامَ عِبَادِهِ أَنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ بِهِ يَنْسَوْنَ مِنْ عَظِيمِ مَا يُعَايِنُونَ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَشِدَّةِ جَزَعِهِمْ مِنْ عَظِيمِ مَا يَرِدُونَ عَلَيْهِ مَا كَانُوا فِيهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّعِيمِ وَاللَّذَّاتِ، وَمَبْلَغُ مَا عَاشُوا فِيهَا مِنَ الْأَزْمَانِ، حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَى أَعْقَلِهِمْ فِيهِمْ، وَأَذْكَرِهِمْ وَأَفْهَمِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَعِيشُوا فِيهَا إِلَّا يَوْمًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَسْأَلُكَ يَا مُحَمَّدُ قَوْمُكَ عَنِ الْجِبَالِ، فَقُلْ لَهُمْ: يَذْرِيهَا رَبِّي تَذْرِيَةً، وَيُطَيِّرُهَا بِقَلْعِهَا وَاسْتِئْصَالِهَا مِنْ أُصُولِهَا، وَدَكِّ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَتَصْيِيرِهِ إِيَّاهَا هَبَاءً مُنْبَثًّا {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَيَدَعُ أَمَاكِنَهَا مِنَ الْأَرْضِ إِذَا نَسَفَهَا نَسْفًا قَاعًا، يَعْنِي: أَرْضًا مَلْسَاءَ، صَفْصَفًا: يَعْنِي مُسْتَوِيًا لَا نَبَاتَ فِيهِ، وَلَا نَشَزَ، وَلَا ارْتِفَاعَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {قَاعًا صَفْصَفًا} يَقُولُ: مُسْتَوِيًا لَا نَبَاتَ فِيهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} قَالَ: مُسْتَوِيًا، الصَّفْصَفُ: الْمُسْتَوِي. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ قَالَ: ثَنَا أَبُو الْأُسُودِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: كُنَّا قُعُودًا عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ حِينَ قَالَ كَعْبٌ: إِنِ الصَّخْرَةَ مَوْضِعُ قَدَمِ الرَّحْمَنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: كَذَبَ كَعْبٌ، إِنَّمَا الصَّخْرَةُ جَبَلٌ مِنَ الْجِبَالِ، إِنِ اللَّهَ يَقُولُ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} فَسَكْتَ عَبْدُ الْمَلِكِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ (صَفْصَفًا) قَالَ: مُسْتَوِيًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: الْقَاعُ: مُسْتَنْقَعُ الْمَاءِ، وَالصَّفْصَفُ: الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ. وَقَوْلُهُ {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} يَقُولُ: لَا تَرَى فِي الْأَرْضِ عِوَجًا وَلَا أَمْتًا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْعِوَجِ وَالْأَمْتِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنَى بِالْعِوَجِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْأَوْدِيَةَ، وَبِالْأَمْتِ الرَّوَابِي وَالنُّشُوزَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} يَقُولُ: وَادِيًا، وَلَا أَمْتًا: يَقُولُ: رَابِيَةً. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُخَرِّمِيُّ قَالَ: ثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ صَفْوَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} قَالَ: هِيَ الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ، أَوْ قَالَ: الْمَلْسَاءُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا لَبِنَةٌ مُرْتَفِعَةٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} قَالَ: ارْتِفَاعًا، وَلَا انْخِفَاضًا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} قَالَ: لَا تَعَادِي، الْأَمْتُ: التَّعَادِي. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِالْعِوَجِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الصُّدُوعَ، وَبِالْأَمْتِ الِارْتِفَاعَ مِنَ الْآكَامِ وَأَشْبَاهِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} قَالَ: صَدْعًا (وَلَا أَمْتًا) يَقُولُ: وَلَا أَكَمَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِالْعِوَجِ الْمَيْلَ، وَبِالْأَمْتِ الْأَثَرَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} يَقُولُ: لَا تَرَى فِيهَا مَيْلًا، وَالْأَمْتُ: الْأَثَرُ مِثْلَ الشِّرَاكِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْأَمْتُ: الْمَحَانِي وَالْأَحْدَابُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْأَمْتُ: الْحَدَبُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِالْعِوَجِ الْمَيْلَ، وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَهَلْ فِي الْأَرْضِ الْيَوْمَ مِنْ عِوَجٍ، فَيُقَالُ: لَا تَرَى فِيهَا يَوْمَئِذٍ عِوَجًا، قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: لَيْسَ فِيهَا أَوْدِيَةٌ وَمَوَانِعُ تَمْنَعُ النَّاظِرَ أَوِ السَّائِرَ فِيهَا عَنِ الْأَخْذِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، كَمَا يَحْتَاجُ الْيَوْمَ مِنْ أَخَذَ فِي بَعْضِ سُبُلِهَا إِلَى الْأَخْذِ أَحْيَانًا يَمِينًا، وَأَحْيَانًا شَمَالًا لِمَا فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْبِحَارِ. وَأَمَّا الْأَمْتُ فَإِنَّهُ عِنْدَ الْعَرَبِ الِانْثِنَاءُ وَالضَّعْفُ، مَسْمُوعٌ مِنْهُمْ، مَدَّ حَبْلَهُ حَتَّى مَا تَرَكَ فِيهِ أَمْتًا، أَيِ انْثِنَاءً، وَمَلَأ سِقَاءَهُ حَتَّى مَا تَرَكَ فِيهِ أَمْتًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: مَا فِي انْجِذَابِ سَيْرِهِ مِنْ أَمْتِ يَعْنِي: مِنْ وَهْنٍ وَضَعْفٍ، فَالْوَاجِبُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَى الْأَمْتِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ أَصْوَبَ الْأَقْوَالِ فِي تَأْوِيلِهِ: وَلَا ارْتِفَاعَ وَلَا انْخِفَاضَ، لِأَنَّ الِانْخِفَاضَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَنِ ارْتِفَاعٍ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: لَا تَرَى فِيهَا مَيْلًا عَنِ الِاسْتِوَاءِ، وَلَا ارْتِفَاعًا، وَلَا انْخِفَاضًا، وَلَكِنَّهَا مُسْتَوِيَةٌ مَلْسَاءُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {قَاعًا صَفْصَفًا}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَوْمَئِذٍ يَتْبَعُ النَّاسُ صَوْتَ دَاعِي اللَّهِ الَّذِي يَدْعُوهُمْ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، فَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ {لَا عِوَجَ لَهُ} يَقُولُ: لَا عِوَجَ لَهُمْ عَنْهُ وَلَا انْحِرَافَ، وَلَكِنَّهُمْ سِرَاعًا إِلَيْهِ يَنْحَشِرُونَ، وَقِيلَ: لَا عِوَجَ لَهُ، وَالْمَعْنَى: لَا عِوَجَ لَهُمْ عَنْهُ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا يُعْوَجُّونَ لَهُ وَلَا عَنْهُ، وَلَكِنَّهُمْ يَؤُمُّونَهُ وَيَأْتُونَهُ، كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ: دَعَانِي فُلَانٌ دَعْوَةً لَا عِوَجَ لِي عَنْهَا: أَيْ لَا أَعْوَجُّ عَنْهَا، وَقَوْلُهُ {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَسَكَنَتْ أَصْوَاتُ الْخَلَائِقِ لِلرَّحْمَنِ فَوَصَفَ الْأَصْوَاتَ بِالْخُشُوعِ، وَالْمَعْنَى لِأَهْلِهَا إِنَّهُمْ خَضَعَ جَمِيعُهُمْ لِرَبِّهِمْ، فَلَا تَسْمَعُ لِنَاطِقٍ مِنْهُمْ مَنْطِقًا إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ. كَمَا حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} يَقُولُ: سَكَنَتْ. وَقَوْلُهُ {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} يَقُولُ: إِنَّهُ وَطْءُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْمَحْشَرِ، وَأَصِلُهُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، يُقَالُ هَمَسَ فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ بِحَدِيثِهِ إِذَا أَسَرَّهُ إِلَيْهِ وَأَخْفَاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: وَهُـنَّ يَمْشِـينَ بِنَـا هَمِيسًـا *** إِنْ يَصْـدُقِ الطَّـيْرُ نَنِـكْ لَمِيسًـا يَعْنِي بِالْهَمْسِ صَوْتَ أَخْفَافِ الْإِبِلِ فِي سَيْرِهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَابِسٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} قَالَ: وَطْءُ الْأَقْدَامِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} يَعْنِي هَمْسَ الْأَقْدَامِ، وَهُوَ الْوَطْءُ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} يَقُولُ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى السُّدِّيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُرَيْكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} قَالَ: وَطْءُ الْأَقْدَامِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: ثَنَا حَمَّادُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} قَالَ: هَمَسَ الْأَقْدَامِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: وَقْعُ أَقْدَامِ الْقَوْمِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} قَالَ: تَهَافُتًا، وَقَالَ: تَخَافُتِ الْكَلَامِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ (هَمْسًا) قَالَ: خَفْضُ الصَّوْتِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: خَفْضُ الصَّوْتِ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَلَامُ الْإِنْسَانِ لَا تُسْمَعُ تَحَرُّكُ شَفَتَيْهِ وَلِسَانِهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ قَوْلَهُ {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} يَقُولُ: لَا تَسْمَعُ إِلَّا مَشْيًا، قَالَ: الْمَشْيُ الْهَمْسُ وَطْءُ الْأَقْدَامِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا} شَفَاعَةَ {مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} أَنْ يَشْفَعَ {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} وَأَدْخَلَ فِي الْكَلَامِ لَهُ دَلِيلًا عَلَى إِضَافَةِ الْقَوْلِ إِلَى كِنَايَةِ "مَنْ" وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ الْآخَرِ: رَضِيَتْ لَكَ عَمَلَكَ، وَرَضِيَتْهُ مِنْكَ، وَمَوْضِعُ "مَنْ" مِنْ قَوْلِهِ {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ} نَصْبٍ لِأَنَّهُ خِلَافَ الشَّفَاعَةِ. وَقَوْلُهُ {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَعْلَمُ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ مَا بَيْنَ أَيْدِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ مِنْ أَمْرِ الْقِيَامَةِ، وَمَا الَّذِي يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ (وَمَا خَلْفَهُمْ) يَقُولُ: وَيَعْلَمُ أَمْرَ مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُمْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ (وَمَا خَلْفَهُمْ) مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا يُحِيطُ خَلْقُهُ بِهِ عِلْمًا. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّهُ مُحِيطٌ بِعِبَادِهِ عِلْمًا، وَلَا يُحِيطُ عِبَادَهُ بِهِ عِلْمًا، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِي مَلَائِكَتِهِ وَمَا خَلْفَهُمْ، وَأَنَّ مَلَائِكَتَهُ لَا يُحِيطُونَ عِلْمًا بِمَا بَيْنَ أَيْدِي أَنْفُسِهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَعْلَمَ بِذَلِكَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَذَلِكَ لَا تَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهَا وَمَا خَلْفَهَا، مُوَبِّخُهُمْ بِذَلِكَ وَمُقَرِّعُهُمْ بِأَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يُعْبَدُ، وَأَنَّ الْعِبَادَةَ إِنَّمَا تَصْلُحُ لِمَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ.
|